سورة الشورى - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)}
{وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والارض} على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور.
{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} عطف على {السموات} أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على {خُلِقَ} أي ومن آياته ما بث. و{مَا} تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافًا لأبي حيان {مِن دَابَّةٍ} أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الأناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير؛ وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وذلك لقوله تعالى في البقرة (164): {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل فهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلامًا مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جىء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما هاهنا فجىء به مدمجًا مختصرًا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل: {وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والارض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} مؤثرًا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى: {مِن دَابَّةٍ} تعميمًا وتغليبًا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقًا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل: المراد بالسموات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلًا وفي جو كل إقليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل: المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازًا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببًا للحي فيكون مجازًا مرسلًا تبعيًا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض.
{وَهُوَ على جَمْعِهِمْ} أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة {إِذَا يَشَاء} ذلك {قَدِيرٌ} تام القدرة كاملها، و{إِذَا} متعلقة بما قبلها لا بقدير لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله:
وإذا ما أشاء أبعث منها *** آخر الليل ناشطًا مذعورًا
وقول صاحب الكشف: لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهمًا، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت عنى الوقت كما هنا، وضمير {جَمْعِهِمْ} قيل للسموات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى، وقيل: للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة، وقيل: للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى.


{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}
{وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ} أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات {فَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، و{مَا} اسم موصول مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولًا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيرًا لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جىء بالفاء هنا.
وقرأ نافع. وابن عامر. وأبو جعفر في رواية. وشيبة {ا} بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولًا يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجىء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطًا للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناءً على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ***
والأخفش. وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقًا، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي من الذنوب فلا يعاقب عليها صيبة عاجلًا قيل وآجلًا.
وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار. روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ}».
وأخرج ابن المنذر. وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية {وَمَا أصابكم} الخ، قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر»، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤى على كف شريح قرحة فقيل: هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إلى أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده.
والحكيم الترمذي. وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما أصابكم من مصيبة فا كسبت أيديكم ويعفو عن كثير {وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فا كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محل فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها بعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرًا له.
وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال: المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن.
وفي الانتصاف أن هذه الآية تلبس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] على التائب وهو غير ممكن لهم هاهنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدًا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضها أيضًا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا: المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب. وأنت تعلم ما دل خبر علي كرم الله تعالى وجهه.


{وَمَا أَنْتُمْ عْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)}
{وَمَا أَنتُمْ عْجِزِينَ فِى الارض} أي جاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزًا عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب، وقيل: المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء {وَمَا لَكُمْ مِن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ} من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعها عنكم، والجملة كالتقرير لقوله تعالى: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] أي أن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قصى عليكم منها ولا لكم أيضًا من متول بالرحمة غيره عز وجل ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية في القرآن للمؤمنين، ويقوى أمر الرجاء على ما قيل: أن معنى {مَا أَنتُمْ} إلخ ما أنتم عجزين الله تعالى في دفع مصائبكم أي أنه سبحانه قادر على ذلك.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13